سورة النمل - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)}
تبسَّم سليمان عليه السلام بالبسمة التي تتصل بالضحك لماذا؟ لأنه سمعها قبل أنْ يصل إليها، ولأنها رأتْ قبل أن يأتي المرئي، وقد تكلم البعض في هذه المسألة فقالوا: إن الريح نقلتْ إليه مقالة النملة، وهو ما يزال بعيداً عنها، وهذا الكلام يُقبل لو أن المسألة(ميكانيكا) إنما هي عمل رب وقدرة خالق مُنعِم ينعم بما يشاء.
ونطق قائلاً {رَبِّ أوزعني} [النمل: 19] أي: امنعني أنْ أغفل، أو أنْ أنسى هذه النِّعم، فأظل شاكراً حامداً لك على الدوام؛ لأن هذه النعَم فاقتْ ما أنعمت به على عامة الخَلْق، وفوق ما أنعمتُ به على إخواني من الأنبياء السابقين، وعلى كل ملوك الدنيا؛ لأنه عليه السلام جمع بين الملْك والنُّبوة، وإنْ كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه الملْك فرفضه، وآثر أن يكون عبداً رسولاً.
لذلك وجب على كل صاحب نعمة أنْ يستقبلها بحمد الله وشكْره، وسبق أنْ قُلْنا في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 8] أن حق النعمة أن تحمد المنعم عليها، فلا تُسأل عنها يوم القيامة.
وما أشبه الحمد على النعمة بما يُسمُّونه عندنا في الريف(الرقوبة)، وهي بيضة تضعها ربَّة المنزل في مكان أمين يصلح عُشَّا يبيض فيه الدجاج، فإذا رأتْ الدجاجة هذه البيضة جاءتْ فباضتْ عليها، وهكذا شكر الله وحمده على النعم هو النواة التي يتجمع عليها المزيد من نِعَم الله.
وقد شُرح هذا المعنى في قوله سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ألاَ ترى أن مَنْ علم علماً فعلم به أورثه الله علم ما لم يعلم؟ لماذا؟ لأنه ما دام عمل بعلمه، فهو مُؤْتمن على العلم؛ لذلك يزيده الله منه ويفتح له مغاليقه، على خلاف مَنْ عَلِم علماً ولم يعمل به، فإنَّ الله يسلبه نور العلم، فيغلق عليه، وتصدأ ذاكرته، وينسى ما تعلَّمه.
والحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان: 12] أي: تعود عليه ثمرة شُكْره؛ لأنه إنْ شكر الله بالحمد شكره الله بالزيادة؛ لذلك من أسمائه تعالى(الشكور).
وقوله: {عَلَيَّ} [النمل: 19] هذه خصوصية {وعلى وَالِدَيَّ} [النمل: 19] لأنه ورث عنهما الملْك والنبوة {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} [النمل: 19] وهذا ثمن النعمة أن أؤدي خدمات الصلاح في المجتمع لأكون مُؤْتمناً على النعمة أهْلاً للمزيد منها.
والحق تبارك وتعالى يريد منَّا أنْ نُوسِّع دائرة الصلاح ودائرة المعروف في المجتمع، أَلاَ ترى إلى قوله سبحانه: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245].
فسمَّى الخير الذي تقدمه قَرْضاً، مع أنه سبحانه واهب كل النِّعم، وذلك لِيُحنِّن قلوب العباد بعضهم على بعض؛ لأنه تعالى خالقهم، وهو سبحانه المتكفِّل برزقهم.
ثم يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] وذكر الرحمة والفضل؛ لأنهما وسيلة النجاة، وبهما ندخل الجنة، وبدونهما لن ينجو أحد، واقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ولا أنا إلا أنْ يتغمّدني الله برحمته».
ويقول سبحانه في هذا المعنى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ} [يونس: 58] فالمؤمن الحق لا يفرح بعمله، إنما يفرح: إنْ نال فَضْلَ الله ورحمته، كأنه يقول لربه: لن أتكل يا رب على عملي، بل فضلك ورحمتك هما المتكل، لأنني لو قارنتُ العبادة التي كلفتني بها بما أسدْيتَ إليَّ من نِعَم وآلاء لَقصُرَتْ عبادتي عن أداء حقِّك عليَّ، فإنْ أكرمتني بالجنة فبفضلك.
والبعض يقولون: كيف يعاملنا ربنا بالفضل والزيادة، ويُحرِّم علينا التعامل بالربا؟ أليست الحسنة عنده بعشرة أمثالها أو يزيد؟ نقول: نعم، لكن الزيادة هنا منه سبحانه وتعالى وليستْ من مُسَاو، إنها زيادة ربٍّ لعبيد.
وقوله {فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] دليل على تواضع سيدنا سليمان عليه السلام فمع مكانته ومنزلته يطلب أنْ يُدخِله الله في الصالحين، وأن يجعله في زمرتهم، فلم يجعل لنفسه مَيْزةً ولا صدارة ولا أدَّعى خيرية على غيره من عباد الله، مع ما أعطاه الله من الملْك الذي لا ينبغي لأحد من بعده.
وأعطاه النبوة وحمَّله المنهج، فلم يُورثه شيء من هذا غروراً ولا تعالياً، وها هو يطلب من ربه أن يكون ضمن عباده الصالحين، كما نقول(زقني مع الجماعة دول)، حين تكون السيارة مثلاً كاملة العدد، وليس لي مقعد أجلس عليه.
مَنْ يقول هذا الكلام؟ إنه سليمان بن داود عليهما السلام الذي آتاه الله مُلْكاً، لا ينبغي لأحد من بعده، ومن ذلك كان يُؤثِر عبيده وجنوده على نفسه، وكان يأكل(الردة) من الدقيق، ويترك النقي منه لرعيته.
إذن: لم ينتفع من هذا الملْك بشيء، ولم يصنع لنفسه شيئاً من مظاهر هذا الملك، إنما صنعه له ربه لأنه كان في عَوْن عباد الله، فكان الله في عَوْنه، وأنت حين تُعين أخاك تُعينه بقدرتك وإمكاناتك المحدودة، أما معونة الله تعالى فتأتي على قَدْر قوته تعالى، وقدرته وإمكاناته التي لا حدودَ لها، إذن: فأنت الرابح في هذه الصفقة.


{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ(20)}
مادة: فقد الفاء والقاف والدال، وكل ما يُشتقّ منها تأتي بمعنى ضاع منه الشيء، ومنه قوله تعالى في قصة إخوة يوسف: {قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71]، فإنْ جاءت بصيغة(تفقَّد) بالتضعيف دلَّتْ على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه في مظانّه.
فمعنى {وَتَفَقَّدَ الطير} [النمل: 20] أن الرئيس او المهيمن على شيء لابد له من متابعته، وسليمان عليه السلام ساعةَ جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من مملكته، كأنه القائد يستعرض جنوده، وفي هذا إشارة إلى أنه عليه السلام مع أن هذا ملكه ومُسخَّر له ومُنقَاد لأمره، إلا أنه لم يتركه هَمَلاً دون متابعة.
لكن، لماذا تفقَّد الطير بالذات؟ قالوا: لأنه أراد أنْ يقوم برحلة في الصحراء، والهدهد هو الخبير بهذه المسألة؛ لأنه يعلم مجاهلها، ويرى حتى الماء في باطن الأرض، يقولون: كما يرى أحدكم الزيت في وعائه.
لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن الله تعالى جعل له منقاراً طويلاً؛ لأنه لا يأكل مما على سطح الأرض، إنما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الأرض.
ألاَ تراه حين كلَّم سليمان في دقائق العقيدة والإيمان بالله يقول عن أهل سبأ: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] فاختار هذه المسألة بالذات؛ لأنه الخبير بها ورزقه منها.
ولما لم يجد الهدهد في الحاضرين قال {فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] فساعةَ يستفهم الإنسان عن شيء يعلم حقيقته، فإنه لا يقصد الاستفهام، إنما هو يستبعد أنْ يتخلَّف الهدهد عن مجلسه.
لذلك قال {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} [النمل: 20] يعني: ربما هو موجود، لكنِّي لا أراه لعلّة عندي أنا، فلما دَقّق النظر وتأكد من خُلوِّ مكانه بين الطيور، قال {أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] إذن: لابد من معاقبته:


{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(21)}
ومعاقبة المخالف أمر ضروري؛ لأن أيِّ مخالفة لا تُقابل بالجزاء المناسب لابد أن تثمر مخالفات أخرى متعددة أعظم منها، فحين نرى موظفاً مُقصِّرًا في عمله لا يحاسبه أحد، فسوف نكون مثله، وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللامبالاة، وتحدث الطَّامة حينما يُثاب المقصر ويُرَقى مَنْ لا يستحق.
لذلك توعَّد سليمان الهدهد: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21].
وقد تكلَّم العلماء في كيفية تعذيب الهدهد، فقالوا: بنتف ريشه الجميل الذي يزهوا به بين الطيور، حتى يصير لحماً ثم يُسلط عليه النمل فيلدغه، أو يجعْله مع غير بني جنسه، فلا يجد لها إلفاً ولا مشابهاً له في حركته ونظامه، أو: أنْ يُكلِّفه بخدمة أقرانه من الهداهد التي لم تخالف، أو: أجمعه مع أضداده، وبعض الطيور إذا اجتمعتْ تنافرتْ وتشاجرتْ، ونتف بعضها ريش بعض؛ لأنهم أضداد؛ لذلك قالوا: أضيق من السجن عِشْرة الأضداد.
والشاعر يقول:
وَمِنْ نكَدِ الدُّنْيا عليَ المرْءِ أنْ يرى *** عَدُواً لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَته بُدُّ
ثم رقَّى الأمر من العذاب الشديد إلى الذبح، وهذه المسألة أثار حولها المتمردون على منهج الله والذين يريدون أنْ يُعدِّلوا على الله أحكامه، أثاروا إشكالاً حول قوله تعالى في حَدِّ الزنا: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] أما الرَّجْم فلم يَرِدْ فيه شيء، فمن أين أتيتم به؟
نقول أتينا به أيضاً من كتاب الله، حيث قال سبحانه في جَلد الأمَة إنْ زنتْ وهي غير محْصنة: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فقالوا: وكيف نُنصِّف حدَّ الرجم؟ وهذا القول منهم دليل على عدم فهمهم لأحكام الله.
فالمعنى {فَعَلَيْهِنَّ} [النساء: 25] أي: على الإماء الجواري {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} [النساء: 25] الحرائر، ولم يسكت إنما خصص التنصيف هنا بالجَلْد، فقال: {مِنَ العذاب} [النساء: 25] فتجلد الأَمَة خمسين جلدة، وهذا التخصيص يدلُّ على أن هناك عقوبة أخرى لا تُنصف هي الرجْم.
وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21] أ ي: حجة واضحة تبرر غيابه، فنفهم من الآية أن المرؤوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه، ودون أن يأخذ الإذن من رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة لا تستدعي التأخير.
وعلى الرئيس عندها أن يُقدِّر لمرؤوسيه اجتهاده، ويلتمس له عذراً، فلعله عنده حجة أحمده عليها بل وأكافئه؛ لأن وقت فراغه مني كان في مصلحة عامة، كما نقول في العامية(الغايب حجته معاه).
إذن: المرؤوس إنْ رأى خيراً يخدم الفكر العام، ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون إذن، وفي الحرب العالمية الأولى تصرّف أحد القادة الألمان تصرُّفاً يخالف القواعد الحربية، لكنه كان سبباً في النصر؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسُوا أنْ يُعاقبوه على مخالفة القواعد والقانون.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10